المواطن/ تقارير
في سبتمبر من العام 2016، قرَّر الرئيس هادي نقل المقر الرئيس للبنك المركزي اليمني من العاصمة صنعاء، الواقعة تحت سيطرة الانقلابيين، إلى العاصمة المؤقتة عدن، عقب عام واحد من تحريرها. لكن قرار النقل ظل محدودَ التأثير طيلة عامين تقريباً؛ وهي الفترة الذي استغرقها المركز الرئيس الجديد لاستكمال قطاعاته الحيوية وبنيته المؤسسيّة.
“إدارة الرقابة على البنوك” كانت في مقدمة هذه القطاعات المؤسسية التي أدى تنشيطها إلى زيادة فاعلية البنك المركزي في إدارة الوضع المالي في البلاد، وبمجرد أن باشر “مركزي عدن” تنفيذ مهامه وسياساته المالية، اندلعت معركة شرسة بينه والحوثيين الذين يستخدمون قبضتهم الأمنية في صنعاء لفرض سياساتهم الأحادية على التجار والمصرفيين من خلال أسلوبي الترغيب والترهيب.
وقد سعى المتمردون على مدار الأعوام الماضية إلى تحييد المركز الرئيس للبنك المركزي اليمني، وتعطيل فاعليته السياسية، وتقليص نطاق سيطرته المالية، والاستيلاء على دوره الرقابي والتوجيهي لا سيما في مناطق سيطرتهم، مستغلين بقاء المراكز الرئيسة لأغلب البنوك والشركات اليمنية الكبرى في صنعاء وتركز أسواقها الاقتصادية في مناطق الكثافة السكانية الواقعة تحت هيمنة الانقلاب.
ومن المتوقع أن تتصاعد هذه المعارك المالية بين مركزي عدن من جهة، والمليشيات الحوثية من جهة ثانية، وجمعية البنوك من جهة ثالثة، وهذه الأخيرة بقدر ما تشكل طرفاً مهماً في الصراع فإنها، أيضاً، ساحته المفتوحة. ويسعى هذا التقرير الاستقصائي إلى توضيح السياق العام لصراع الصلاحيات بين مثلث الأزمة المالية في اليمن “مركزي عدن، والقطاع البنكي الخاص، والحوثيين”. وذلك بالاستناد إلى مجموعة من الوثائق الرسمية، وإلى إفادات مصادر مالية مسؤولة في صنعاء وعدن.
القطاع المصرفي.. من رقابة الشرعية إلى هيمنة الحوثي
في العام 2019 استكملت إدارة البنك المركزي تأسيس وتفعيل قطاع الرقابة على البنوك، واستقطبت الكوادر النوعية القادرة على تشغيله بفترة قياسية وبفاعلية كبيرة. شرع “مركزي عدن” بمطالبة البنوك اليمنية بتسليم بياناتها إلى المقر الرئيس في العاصمة المؤقتة بحيث يمارس البنك المركزي كافة صلاحياته ومهامه باعتباره “بنك البنوك”.
مثّل هذا القرار كابوساً بالنسبة للحوثيين، وبدرجة أقل فقد مثل عائقاً أمام الحرية المطلقة للبنوك الخاصة، لكن هذا القرار أبصر النور رغم كل المعوقات وانتظم فيه خمسة عشر بنكاً يمنياً (انظر إلى الوثيقة). وبحسب مصادر مالية في صنعاء فإن جمعية البنوك اجتمعت هناك في شهر يناير من ذات العام كي تطلع محافظ البنك المركزي المُعيَّن من قِبل الحوثيين، الدكتور “محمد السياني”، بقرارها الاستجابة إلى مطالب “مركزي عدن”.
أدى تجاوب البنوك الإيجابي مع مطالب البنك المركزي، على حد وصف مصادر مسؤولة في “مركزي عدن”، إلى تحقيق ثلاثة أهداف: أولاً، الاستقرار النسبي للوضع المالي في البلاد. وثانياً، تعزيز نفوذ الشرعية على القطاع المصرفي. وأخيراً، تعزيز ثقة المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد.
بيد أن مسار الأحداث لم يصب في صالح البنك المركزي على إثر تأزم العلاقة بين مكونات الشرعية، وسوء الإدارة الحكومية للسياسة النقدية واندلاع مواجهات أغسطس في عدن وما أعقبها من سلسلة مواجهات عسكرية وسياسية أضعفت البنى المؤسسية الناشئة في عدن.
وعلى الضفة الأخرى استثمر الحوثيون دوامة الأزمات في معسكر الشرعية، كي يفرضوا هيمنتهم المطلقة على القطاع المصرفي في صنعاء حيث تتواجد المقرات الرئيسة لكافة البنوك اليمنية- باستثناء البنك الأهلي، وبنك التسليف والتعاون الزراعي.
وبمزيج من أساليب التهديد بالعنف، وتقديم امتيازات خاصة في مناطق سيطرتهم؛ استطاع الحوثيون أن يتحكموا “بجمعية البنوك اليمنية”. وبحسب مصادر موثوقة في صنعاء، فقد فرض الحوثيون على الجمعية مشرفاً خاصاً يلقب “الفران”، مهمته حضور كافة اجتماعاتها والتدخل في صياغة قراراتها. وأكدت مصادر مالية وأمنية متقاطعة أن جماعة الحوثي في صنعاء أوكلت إلى جهاز الأمن القومي تخصيص شعبة مستقلة لإدارة الشأن المالي والبنكي، وأصبح نفوذ هذه الشعبة يفوق حتى نفوذ فرع البنك المركزي في صنعاء.
وفي المحصلة أصبح تعثر الشرعية من جهة، والاستقلال الوهمي للقطاع المصرفي من جهة أخرى؛ يصبان في مصلحة المليشيات الحوثية وسلطة الأمر الواقع في صنعاء. ولم تقتصر أهداف الهيمنة الحوثية على البعد الاقتصادي، بل تعدته إلى الجانب السياسي، وقد عمد المتمردون إلى تحقيق هدفين أساسيين:
أولاً، ممارسة إجراءات عقابية ضد كل قيادات ومسؤولي الشرعية، وضد جميع الشخصيات السياسية أو التجارية المعارضة لهم بتجميد أرصدتها ومصادرة أموالها. وبحسب مصادر مطلعة فإن قوائم العقوبات الحوثية تعدت 2000 شخص.
وثانياً -وهو الأهم- فإن احتكار مركزي صنعاء لبيانات البنوك يضعف موقف الشرعية التفاوضي في مشاورات السلام وأمام المجتمع الدولي. ويطمح الحوثيون من وراء ذلك إلى الدفع نحو مقترح المبعوث الأممي لتحييد البنك المركزي عن الصراع وإلى تدويل السياسية النقدية اليمنية. وللوصول إلى هذه المرحلة يجب على الحوثيين إقناع العالم بوجود بنكين مركزيين؛ الأول في عدن، والثاني في صنعاء، وإجبار العالم للتعامل معهم بشكل شرعي.
وكان غريفيث قد اقترح، في وقت سابق، البدء في حلحلة الملف الاقتصادي للأزمة اليمنية طالما تعثر العمل على الملف السياسي والعسكري، وذلك من خلال تحييد البنك المركزي وتعيين قيادة عربية مستقلة عن طرفي الصراع تعمل بإشراف دولي، ونقل المقر الرئيس للبنك إلى عمّان طالما تعذر عمله في صنعاء أو عدن.
محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه
أدى سلوك الحوثيين إلى الإضرار بسمعة القطاع البنكي في اليمن واهتزاز ثقة المؤسسات الدولية به، وهذا بدوره أسهم في تعقيد التعاملات المالية بين الداخل والخارج، وأزَّم عملية الاستيراد التي يعتمد عليها اليمن لتلبية الغالبية العظمى من احتياجاته الأساسية. أما محلياً فقد أدى تنازع الصلاحيات بين صنعاء وعدن إلى تسريع وتيرة التراجع في أسعار العملة المحلية وما يترتب عليه من ارتفاع جنوني في أسعار البضائع.
ظلت المليشيات الحوثية تقاوم على الدوام توجهات البنك المركزي في عدن، لكن أداءها السياسي شهد تغيراً نوعياً في يونيو 2019 حيث بدأوا باتخاذ سياسات عدائية صريحة تتعارض مع توجهات “مركزي عدن”، وفي نوفمبر من نفس العام اتخذ الحوثيون قرارهم بمنع تداول العملة الجديدة المطبوعة من قِبل الشرعية لخلق فارق كبير بالعملة بين المناطق المحررة والمناطق الانقلابية. وكان الهدف، أيضاً، من هذه القرارات الضغط على جمعية البنوك لإضعاف استقلالها السياسي كمنظمة مجتمع مدني، وفك الارتباط بين البنوك الخاصة والبنك المركزي وتحريضها على عدم إرسال البيانات.(انظر بيان جمعية البنوك وثيقة 2).
وفي يناير من العام 2020 وجّه البنك المركزي في صنعاء أمراً مباشراً إلى كافة البنوك وشركات الصرافة تمنعهم من التعامل مع مركزي عدن، وأن من يسلم بياناته سوف يتعرض للسجن والمحاكمة بتهمة “التخابر مع العدو”. (انظر وثيقة 3 قرار البنك المركزي صنعاء).
وخلال الثلث الأخير من العام الجاري حاول “مركزي عدن” اتخاذ حزمة إجراءات إنقاذية مستثمراً الزخم السياسي الذي ولّدته توافقات الشرعية والانتقالي حول تطبيق اتفاق الرياض والتراجع عن قرار الإدارة الذاتية وإيقاف المعارك في أبين. وما تلى ذلك من تعيين محافظ جديد للعاصمة المؤقتة، الأمر الذي سهل من تطبيق الإجراءات المالية وتعزيز مؤسسات الدولة.
وطالب قطاع الرقابة المصرفية جميع البنوك اليمنية بتسليم بياناتها إلى المركز الرئيس في عدن، لكن هذه الإجراءات قوبلت بممانعة شديدة هذه المرة، وبدأ الحوثيون باستثمار نفوذهم في صنعاء وداخل جمعية البنوك لإحباط مساعي الحكومة الشرعية.
حاول الحوثيون فرض سيناريو حافة الهاوية، والزج بالقطاع المصرفي بشكل صريح في النزاع على نحو يهدد بانهياره التام، وبالتالي إجبار الشرعية على التراجع عن سياستها المالية باعتبارها الطرف العقلاني، وفي الوقت نفسه بدأت جمعية البنوك بتكثيف تواصلاتها مع مارتن غريفيث لحثه على التدخل في الملف الاقتصادي.
وبعكس المتوقع قررت إدارة “مركزي عدن” خوض معركة “عض الأصابع” مع الحوثيين، وقابلت التعنت المصرفي بإجراءات عقابية رادعة منها فرض غرامات مالية ومنع مديري البنوك من السفر. وبحسب مصادر مطلعة فإن إدارة المركزي هددت بتبليغ الانتربول ووضع ملاك وإدارات البنوك المتخلفة في القائمة السوداء لحظر التعامل الدولي معها.
لقد سعى “مركزي عدن” من خلال هذه الإجراءات (المغامرة والقانونية في ذات الوقت) إلى فصل مصالح البنوك الاقتصادية عن أجندة الحوثيين السياسية. وهو ما حدث تباعاً بعد سلسلة من الخطوات التصعيدية.
حرب الأيام السبعة.. نجاح مؤقت وتحديات قائمة
كانت الفترة من 3 وحتى 7 من نوفمبر حاسمة في تحديد توجهات القطاع المصرفي اليمني، فبدلاً من التجاوب الفوري مع مطالب “مركزي عدن” بتسليم البيانات، أعلنت جمعية البنوك في الثالث من نوفمبر اعتزامها إجراء إضراب جزئي في محافظة عدن تنديداً بالضغوط الممارسة عليها (بيان البنوك وثيقة 4).
في المقابل أصدر البنك المركزي في عدن تعميماً يوم الرابع من نوفمبر يحذر فيه البنوك التي سوف تغلق بأنها ستكون خاضعة للمساءلة القانونية وسوف يحظر فتحها مجدداً إلا بموافقة جديدة من البنك المركزي. ما يعني الخضوع مجدداً لمعاملات البيروقراطية اليمنية، وهو كابوس بالنسبة لجميع التجار. (انظر وثيقة 5 قرار البنك).
في اليوم التالي أعلنت جمعية البنوك تفهمها لمطلب “مركزي عدن” وأنها في الوقت نفسه ستواصل الإضراب حتى يتم الاستجابة لشروطها برفع الإجراءات العقابية المتعلقة بحظر السفر والغرامات المالية. وبعد تواصل مكثف بين الجمعية و”مركزي عدن” أعلنت البنوك في السابع من نوفمبر تعليقها للاعتصام والتزامها تسليم البيانات التفصيلية إلى البنك بشكل دوري ومنتظم في مقابل رفع الإجراءات العقابية التي اتخذها “مركزي عدن”.
حاول الحوثيون تنفيذ مناورتهم الأخيرة بحث البنوك على تقديم بياناتها المتعلقة بمناطق سيطرة الشرعية إلى مركزي عدن، وبالمقابل تقديم بيانات المناطق الواقعة تحت نفوذهم إلى فرع البنك في صنعاء. وقد قوبل هذا المقترح برفض قاطع من قبل إدارة البنك المركزي، بحسب ما أكد مصدر مسؤول في البنك، مضيفاً إن القبول بمثل هذا المقترح يعني عملياً تحقيق مراد الحوثيين والاعتراف بوجود بنكين مركزيين. وبحسب ذات المصدر فقد بدأت البنوك المهمة بتسليم بياناتها منذ الأحد الموافق 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020م، بانتظار أن تمتثل جميع البنوك الأخرى إلى القرار.
بهذه المحصلة يكون “مركزي عدن” قد نجح في إدارة الأزمة مع الحوثي من جهة، وفي تخريب علاقة التخادم بين البنوك والحوثيين من جهة أخرى، وقد تطورت الفجوة بين الطرفين لاحقاً إلى عداء مفتوح تكلل باقتحام الحوثيين لمقر بنك التضامن ومصادرة أجهزته، وذلك على خلفية قرار مدير البنك “شوقي هائل سعيد”، الذي رفض تنفيذ رغبة الحوثي بالإضراب في عدن فقط، قائلاً “إما أن نغلق في كامل الجمهورية أو نفتح في كامل الجمهورية”، كما أبدى موافقته على تسليم بياناته للبنك المركزي – عدن. وبمعنى آخر فقد انتقلت الأزمة مؤقتاً من عدن إلى صنعاء.
لكن تفوُّق الشرعية تنغصه العديد من المعوقات المرتبطة باستقرار الجبهة الداخلية لمعسكر الشرعية واستمرار انهيار أسعار العملة. وبحسب مسؤولين حكوميين فإن هدف “مركزي عدن” يتلخص في ثلاث نقاط: أولاً تحييد القطاع المصرفي بحيث يضطلع بمهامه الاقتصادية بعيداً عن تسييسه كما جرى من قبل الحوثي. وثانياً، تعزيز آليات الشفافية والرقابة لاستعادة ثقة المؤسسات الدولية. وأخيراً الحفاظ على استقرار الوضع المالي في البلاد وإيقاف وتيرة التدهور المطّرد للعملة والاقتصاد.
وجميع هذه الأهداف يتعذر تحقيقها ما لم يتم تشكيل الحكومة المنتظرة، يله مباشرة تعزيز آليات الحوكمة والشفافية داخل البنك المركزي اليمني. ومن دون هذين الشرطين سيظل “مركزي عدن” في موقع رد الفعل، ولن يمسك بزمام المبادرة طويلاً. لذا فمن المتوقع أن تشهد حرب البيانات المالية دورة جديدة يعاد فيها صياغة المعادلة المالية، وذلك بالتوازي مع دورات الهبوط الحاد التي تشهدها أسعار العملة المحلية.